صاحب الغبطة، مغبوط سبيلك - نايلة تويني

 صاحب الغبطة، مغبوط سبيلك
نايلة تويني


"مغبوط السبيل الذي تسير فيه اليوم، فقد أعد لك مكان الراحة". ومن لسواك، سيدي، يكون هذا المكان المتقدم، وانت كنت المتقدم أينما حللت، بعدما حملت المسيح في وجدانك، واخترته لك رفيقاً وصديقاً وأباً وأخاً ومرشداً ومعلماً، فتخليت عن كل مغريات الدنيا وأدرت لها ظهرك، وقصدت الدير الارثوذكسي، ذا الايمان القويم، والمسار الصحيح، لتجعله ملجأ لعقلك وقلبك وروحك وجسدك وكل حياتك.
وها انت اليوم تعود، مع كل الوزنات التي وهبك إياها المسيح، الى احضان الآب، فتمثل امام الديّان، ليعرض لك مآثرك في المحافظة على الايمان، ويقدّر مواقفك من أمور الدنيا، التي لم تحد فيها قيد انملة عن مبادئ انسانية رفيعة، لم تكتفِ بحملها، بل زرعتها اينما حللت.


سيدي البطريرك صاحب الغبطة، لا ارثيك اليوم بل افتقدك في زمن عز فيه الرجال، في الدنيا والدين.
افتقدك وكثيرين في الزمن الصعب، الذي يضرب نواحي في انطاكية، لعل ابرزها مسقطك سوريا، ولا أقول عن الشام إنها موطنك، اذ ان لك في كل رعية موطناً، ولك في قلب كل مؤمن محلاً . وستبقى لك مع كل كأس قداس يرتفع فوق المذبح ذكرى، وحصة في الصلاة، كانت قبلاً لإطالة عمرك وخدمتك الرسالية والرسولية، وصارت اليوم لراحة نفسك مع من سبقك من الآباء القديسين.
سيدي صاحب الغبطة الراحل، في الزمن الصعب تفتقدك كنيستك، وهي تتألم لحال ابنائها، والكلّ يفتقد مآثرك في دفع الحوار المسيحي الاسلامي، كما الحوار بين الكنائس المسيحية. وكما كنت الضامن للايمان الارثوذكسي، كنت ايضاً مفتاح الحوار، وسداً في وجه التعصب الاعمى الذي لا يقبل الآخر. واذكر انك طلبت يوماً "من العلماء الذين يساعدون في النهضة ان يأخذوا الإسلام كعنصر أساسي جداً، واطار فاعل ومستمر، لان النهضة السياسية والاجتماعية والفكرية والادبية لا يمكن ان تكون قفزاً فوق واقع هذه المنطقة".
سيدي، في وداعك، نقف امام ايمانك بالانسان في زمن تتراجع القيم الانسانية، بل تكاد تضمحل أمام وطأة آلة الاجرام والقتل، وتداعي الايمان. وأقرأ في نص لك "نحن في الدير عندنا نظرة الى الانسان. نحن لا نعتقد ان الانسان إله في ذاته. نعتقد ان فيه صورة لله. انه على مثال الله. لذلك فإن الصورة تحتاج دائماً الى الأصيل".
واذ آمنت بالانسان آمنت بالارض التي نشأ عليها وتربى، فدافعت عن تلك الارض المقدسة في القدس، كما في لبنان وسوريا، قبل ان يصيب البلاء مسقطك. دافعت عن "قضية الحرية الحقيقية"، التي عادت مع الثورات العربية، اذ قلت يوماً "من اعترف بحريتنا أصبح هو حراً من ظلم نفسه لذاته. فإذا زال القمع عن اصوله يقر لنا برموز حيثما حللنا".
واذ ترحل اليوم، سيدي، بعد نحو ستة اشهر من رحيل صديقك، اختم مقالتي بتلك الجملة التي كان غسان تويني وضعها على مكتبه، يستشهد فيها بحبك للبنان. وهي من خطاب لك في مؤتمر الملوك والرؤساء للدول الاسلامية في مدينة الطائف عام 1981 وفيها:
"لبنان دفء للجميع ومكان تلاقي الافكار وتفاعلها ليصبح كلها للكل. وحلاوة لقيا المسيحيين والمسلمين فيه لا تضاهيها حلاوة. إنه غاية ومرام، منبر للابتكار والخلق، ووجه مشرق باسم للجميع. بل انه عنصر تعزية للجميع. وحدتنا متأثرة بوحدة لبنان، وعافيتنا من عافيته. ووحدته حق له، وعافيته حق له، وسلامه حق له.
إن لبنان يناجي القدس في فرادته وأصالته. والقدس تستدعي لبنان في فرادتها وأصالتها. والقدس ولبنان في دنيا العرب قطبان وركنان وضرورتان لكل سلام".
سيدنا، لبنان اليوم يذرف الدمع، كما القدس، والمشرق في وداعك... فمغبوط سبيلك.